الخميس 10 شوال 1445 هـ
18 ابريل 2024 م
جديد الموقع   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (124-129)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (117-123)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (111-116)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (107-110)   تفسير القرآن: تفسير سورة التوبة (97-106)   تفسير القرآن: ‌‌تفسير سورة التوبة 94-96   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-48، كتاب الوضوء، الحديث 170و171و172و173و174و175   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-47، كتاب الوضوء، الحديث 166و167و168و169   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-46، كتاب الوضوء، الحديث 162و163و164و165   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-45، كتاب الوضوء، الحديث 157و158و159و160و161      

الولاء والبراء

الولاء والبراء في الإسلام

محاضرة مفرغة للشيخ صالح بن سعد السحيمي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَىٰ اللهُ وَسَلَمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ، وَعَلَىٰ آلِٰهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

أَمَّا بَعْدُ:

سماحة شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، أيُّها الإخوة في الله، أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إنني وأنا أتكلم في هذا الجامع المبارك، وفيه علماؤنا الأجلاء وعلىٰ رأسهم شيخنا -حفظه الله-، لأتمثل بقول حسَّان -رضي الله عنه وأرضاه-:

«وإنا ومن يُهدِي القصائد نحونا ... كمستبضعٍ تمرًا إلىَ أرضِ خيْبرَا»

لكن لما كانت المشاركة بناءً على طلب سماحته -جزاه الله عنَّا خيرًا-، وإن كنت لا أدعي؛ بل لا أتصور أنني سأوفِّي هذا الموضوع حقه؛ إذ أن حقه أن يُسنَدَ إلىٰ كبار علمائنا -وفقهم الله-؛ ولكن لعلي أتكلم بجهد المقل؛ ثم مشايخنا يتمون ويسددون ويسددنا الله وإياهم لما فيه الخير والصلاح والسداد.

إخوتي في الله، إنَّ هذا الموضوع موضوعٌ مهمٌ جدًا، ويحتاج أن يُثريَهُ -كما قلتُ- علماؤنا -وفقهم الله- وهم فاعلون -إن شاء الله-.

وسوف أُدلي بكُليْمة تحت هذه العناصر الآتية:

(1) أولاً: المقصود من الولاء والبراء.

(2) ثانيًا: الأدلة على وجوب الولاء والبراء.

(3) ثالثًا: أقسام الناس في الولاء والبراء.

(4) الأمر الرابع: صور من الولاء والبراء في القرآن الكريم فيما قصه الله -تبارك وتعالىٰ- عن الأنبياء -عليه الصلاة والسلام-.

(5) خامسًا: مكانة الولاء والبراء في الإسلام.

(6) السادس: حكم الولاء والبراء من حيث الإسلام والكفر.

(7) أخيرًا: رد بعض الشبه، وهي كثيرة، سنكتفي بثلاثة أو أربعة منها-، التي تُثار فيما يُظنُّ أنه مخالفٌ في مسألة الولاء والبراء.

فأقـول، وبالله التـوفيـق:

الولاء مأخوذٌ من الوَلْيِ؛ وهو القرب، والولاية هي القرابة، وتطلق على ولايات الأمصار، وتطلق على الولاية الشرعية على الصبي والمجنون، وولي المرأة ونحو ذلك.والمقصـود بها هنا: الولاية التي هي المحبة والنُصْرَة، كما سيتبين في التعريف الشرعي.

أما البراء: فهو مأخود من البرء، ويُطلق على التباعد من الشيء، وعلى بُرء المريض، وعلى الخلق؛ كما قال الله -تبارك وتعالىٰ-: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾.

وتُطلقُ على برأ القلم ونحو ذلك، هذا من حيث اللغة.

أما الولاء في الاصطلاح الشرعي -عند أهل العلم-؛ فهو: محبة الله ورسوله، ومحبة دين الإسلام ومحبة المؤمنين في ذلك، ومحبة نصرة الإسلام وأهله.

وأما البراء؛ فهو: بُغضُ الشرك وأهله، والقائمين عليه وبغض المشركين، وبغض جميع الطواغيت من دون الله، وبغض من يعبدهم، أيًا كان هؤلاء الطواغيت، وأيًا كان نوع العبادة المخرجة من دين الإسلام. هذا هو خلاصة ما فهمته من كلام مشايخنا -قديمًا وحديثًا-، والذي قرره أهل العلم لا يخرج عن هذا المعنى.

إذن النصرة والمحبة في الولاء، والبغض والكراهية في البراء، هو الذي يدور حوله معنى هاتين الكلمتين: حبُ الله ورسوله، ومحبة نصر دين الإسلام، ومحبة أهل الإسلام، ومحبة نصرتهم، وبغض الكفر والكافرين والشرك والمشركين؛ ولذلك فإن تعريف أهل العلم للإسلام -ولاسيما تعريف الشيخ -شيخ الإسلام- محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله تعالىٰ- يدلُّ علىٰ هذا المعنى؛ قال: الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والخُلُوص من الشرك ومعاداة أهله؛ أو كما قال -رحمه الله-.

فإنه لا إسلام إلا بولاء وبراء، ولاء لكلمة: "لا إله إلا الله"، وما تضمنته من مقتضيات، وعداء لمن يعادي هذه الكلمة أو يفهما على غير معناها.

أما أدلة الولاء والبراء فهي كثيرة في الكتاب والسنة:

قال الله -تبارك وتعالىٰ-: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.

وقال الله -تبارك وتعالىٰ-: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

وقال -تبارك وتعالىٰ-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإنه منهم﴾.

وقال الله -جلَّ وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾.

وقال الله -تبارك وتعالىٰ-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾.

وقال جلَّ وعلا: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾.

وقال تبارك وتعالىٰ -مُبيِّنًا أن الإخوة الإسلامية هي أساس الولاء-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾.

وقال تبارك وتعالىٰ: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

والآيات في هذا الباب كثيرة.وأما الأحاديث؛ فمنها:

قول النبي صلىٰ الله عليه وسلم: ((الْمَرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَ)).

وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار)).

ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).

ويقول عليه الصلاة والسلام: ((المرء على دين خليله)). والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

ننتقل -بعد هذا- إلىٰ:

مكانة الولاء والبراء في الإسلام:

مناط الولاء والبراء هو التوحيد؛ فلابدَّ من الولاء للتوحيد وأهله وأنصاره، ولابدَّ من بغض الشرك وأهله وأنصاره؛ فهذا هو مناطُ الولاءِ والبراء؛ قال الله -سبحانه وتعالىٰ-: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؛ ولذٰلك فإن مكانة الولاء والبراء في الإيمان لها ثلاثة أقسام، ثلاثة أمور لابدَّ من فهمها:

الأمر الأول:

أنها هي معنىٰ لا إله إلا الله، أنَّ الولاء والبراء هو معنىٰ لا إله إلا الله؛ إذ أن معنى هذه الكلمة: لا معبود بحقٍ إلا الله، نفي لكل ما يعبد من دون الله، وإثبات العبادة لله وحده لا شريك له، وهو معنى التلبية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

يدُلَّ لهذا المعنىٰ -أي: لكونها معنىٰ لا إله إلا الله، معنىٰ الشهادة العظيمة-: قول الله -عزَّ وجل-: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

وقول الله -سبحانه وتعالىٰ-: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾.

ولذٰلك فإن فهم هذا المعنىٰ لـ: "لا إلٰه إلا الله" أمرٌ عظيم، يتحصن به المؤمن من كل ما يناقض هذه الكلمة أو ينقصها أو يضعفها، وبقدر ما يخفى هذا الفهم علىٰ البعض، بقدر ما ينزلق فيما ينقضها أو ينقصها؛ ولذٰلك خفي هذا المعنىٰ على عُبَّادِ القبور، وكان الكُفَّار القُدامىٰ أكثر فهمًا منهم لمعنىٰ "لا إله إلا الله"؛ فإنهم لما فهموا أن معنىٰ "لا إله إلا الله" يقتضي نفي جميع المعبودات من دون الله -سبحانه وتعالى- وبغضها والبراءة منها، لما فهموا هذا الفهم -أعني: الكفار- لما فهموا هذا الفهم؛ قالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾؛ ومن العجب: أن يكون من ينطق بالشهادتين ويؤدي الصلاة، ويؤدي الزكاة، ويصومُ رمضان، ويحج البيت، ويفعل المأمورات، ويجتنب المنهيات؛ يوجدُ منهم من يخفى عليه معنىٰ هذه الكلمة؛ فتجده يناقض "لا إله إلا الله" مع ما يقوم به من أعمال؛ بذبح لغير الله، أو طلب المدد من غير الله، أو طلب العون من غير الله، أو دعاء الأموات في قبورهم، والنذر لهم والذبح لهم، وطلب العون والغوث منهم، أو ما إلىٰ ذلك من المشاهد التي يشاهدها كثيرٌ ممن يخرج خارج بلادنا، أو يسافر خارج هذه البلاد، كثيرٌ من تلك البلاد -نسأل الله لنا ولهم العافية- لا تخلو مدينة أو قرية من قبر يُعظَّمُ ويُعبَدُ ويُنذَرُ له ويُذبح له، ويُتقرَّبُ له من دون الله، والله – تبارك وتعالىٰ- يقول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

فمن فهم هذا المعنىٰ؛ فهو الموحد حقًا، وهو الذي فهِمَ أن معنىٰ الولاء والبراء هو معنىٰ لا إله إلا الله، فمعنىٰ: "لا إله": هو البراء، ومعنىٰ: "إلا الله": هو الولاء.

× الأمر الثاني -فيما يتعلق بمكانة الولاء والبراء في الإيمان-:أنه شرطٌ في صحة الإيمان؛ فلا يصح إيمان العبد حتىٰ يؤمن بالله ويكفر بما يُعبد من دون الله.

وقد علَّق الله -تبارك وتعالىٰ- صحة الإيمان علىٰ ذٰلك، في قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

فقد علَّق صحة الإيمان بشرطٍ عظيم، وهو: الولاء لله -تبارك وتعالىٰ- ورسوله والمؤمنين، ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: ما اتخذوا الكفار أولياء، ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾.

فهذا تعليقٌ لصحة الإيمان بتحقق هذا الشرط، فإذا لم يتحقق فلا إيمان. فمن أحب الكفار ووالهم، وأحب نصرتهم على المؤمنين، وأحب انتصار دينهم؛ فإنه لم يحقق شرط الإيمان.

الأمر الثالث:

أنَّ الولاء والبراء أوثق عُرىٰ الإيمان، أنهما أوثق عُرىٰ الإيمان؛ وهما مناطُ الحب في الله والبغض في الله؛ قال الله -عزَّ وجل-: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهن حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله)).

ويقول صلى الله عليه وسلم -في بيان أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله-: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه)).

ويقول صلى الله عليه وسلم: ((أوثق عُرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)).

ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فالحب في الله، والبغض في الله -اللذان هما معنى الولاء والبراء- أوثق عُرى الإيمان، هٰذه منزلة ومكانة والولاء في الإسلام.

وانتقل إلى الفقرة الرابعة؛ وهي:

¯ بعض صور أو بعض آياتٍ تبين صورًا من ما قصة الله علينا عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في مسألة الولاء والبراء.

فهذا نوحٌ -عليه السلام-؛ كما قصَّ الله أمره في سورة هود: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾.

فإنَّ نوحًا -عليه السلام- لما تبين له أن ابنه قد صار مع المشركين، وأنه لم يعد من أهله الناجين، ولم يعد من أهله المؤمنين، ولم يعد من أهله الذين يجب أن يوالوا، ويجب أن يحبوا؛ لأنه على غير دينه؛ عندئذٍ تبرأ منه؛ فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾.

فالمقصود أن نوحًا -عليه السلام- لما اتضح له أن ولده لم يعد مع المؤمنين، وأنه فارقهم؛ تبرأ منه هذه البراءة الواضحة الصريحة.

الثانية:

ما قصه الله -تبارك وتعالىٰ- عن إبراهيم -عليه السلام-؛ قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.

وعد أن يستغفر له قبل أن يتضح أمره، وقبل أن يتيقن أنه سيموت على الكفر؛ ولذلك يتبرأ منه حتىٰ يوم القيامة؛ فقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم -عليه السلام- يلقىٰ أباه يوم القيامة وقد شَحُب وجهه واغبر؛ فيقول له: يا أبت! ألم أقل لكم لا تعصني؟ فيقول: الآن لا أعصك! فيقول: ربي إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: انظر إلى ما تحت قدمك، فينظر فإذا بزيخ متلطخ -والزيخ ذكر الضباع- فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار، عندها يتبرأ إبراهيم -عليه السلام-، ويعلم أن الله قد حرَّم الجنة على الكافرين.

وهذا نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم حرص كل الحرص على إسلام عمه أبي طالب، الذي آواه وأحسن إليه، وقدَّم ما قدَّم، ولٰكنَّ الله -سبحانه وتعالىٰ- أراد أن يُبيِّن للناس أن القرابة لا تنفع أحدًا، وأن الرابط العظيم بين الناس هو الدين، وأنَّ الهداية بيد الله -سبحانه وتعالىٰ-، نسال الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ وإلا فأن أبا طالب يعلم الحق، ومنعه أن يعتنقه التعصب لما كان عليه آباؤه وأجداده، وهو القائل:

«ولقد علمت بأن دين محمد .. من خير أديان البرية دينًا

لولا الملامة أو حذار مسبة .. لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا»

لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، وغيرهما من الكفار؛ فقال له: ((يا عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) الكفار حريصون أن يموت على هذه الحال، فلم يقولوا: لا تقلها، خشية أن يقولها ولو حمية؛ بل قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأعاد الكفار؛ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم ثالثةً؛ فأعاد أولٰئك؛ فكان آخر كلمة مات عليها: هو على ملة عبد المطلب.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك)). انظر إلى أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه؛ فأنزل الله قوله -تبارك وتعالىٰ-: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.

ونزل بشأن أبو طالب، قول الله -تعالى-: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.

فاتضح للنبي صلى الله عليه وسلم الأمر؛ فأوضحه للأمة، وأنَّ الولاء للدين وأهله، والبراءة يجب أن تكون من الشرك وأهله.

ومن العجب: أنْ يوجد البعض من الناس يوالون ويعادون في سبيل الحزبية المقيتة، أو التكتلات والتجمعات التي لم تقم هدي النبي صلىٰ الله عليه وسلم، تحت شعارات ومسميات معينة؛ فنجد البعض من الناس يوالي زيدًا من أصحاب تلك الشعارات ولو كان عنده ما عنده من المخالفات الشرعية، وتأويل أسماء الله وصفاته، والنيل من أنبياء الله ومن الصحابة، ونحو ذلك. يقدِّمُون مبادئ الحزب على الولاء والبراء في الله ومن أجل الله، التي سمعنا النصوص التي تحدِّدُ ذلك، فينبغي للمسلمين عامة وطلبة العلم خاصة أن يتنبهوا لهذا الأمر، وأن يبصروا الأمة في هذا المفهوم؛ حتىٰ يتضح لهم أنه يجب أن يكون الولاء لله والبراء من أجل الله، وهو معنى: لا إلٰه إلا الله ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾.

لا ننظر إلىٰ حزب ولا إلى شخص، ولا إلىٰ تقديسٍ للأشخاص علىٰ حساب الولاء والبراء اللذين لابد منهما حتىٰ يتحقق معنىٰ "لا إلٰه إلا الله".

المسألة الخامسة:

¯ أقسام الناس في الولاء والبراء.

يعني: أحوال الناس من حيث من تجب موالاته مطلقًا، أو تحرم موالاته مطلقًا، أو يُحب من جانب، ويبغض من جانب آخر؛ فالناس في هذا الباب ثلاثة أقسام:

قسمٌ يحبون مطلقًا؛ وهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، يحبون من كل وجه، والصحابة -رضوان الله عليهم-، وعلىٰ رأسهم العشرة المبشرون بالجنة، وعلىٰ رأس الجنة الخلفاء الراشدون، ثم أهل بدر، ثم المهاجرون والأنصار، ثم سائر الصحابة -رضوان الله عليهم-. هؤلاء هم الذين تجب محبتهم في الله وموالاتهم في الله؛ قال الله -تبارك وتعالىٰ-: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.

فهٰؤلاء هم الذين تجب محبتهم، وموالاتهم، حتىٰ يتحقق الولاء.

إذن: أولاً: من يحب مطلقًا من كل وجه، وهم الرسل وأتباعهم من المؤمنين؛ هٰؤلاء هم الذين يحبون مطلقًا، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرته، والمرء مع من أحب، والمرء على دين خليله، والأرواح جنودٌ مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، تلك المحبة، جعلت الصحابة -رضوان الله عليهم- يفدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأموالهم وأهليهم، تلك المحبة جعلت أحدهم يقدم نفسه في سبيل الله فداءً للإسلام، وفداءً لرسول صلى الله عليه وسلم.

فهذا خُبيْبُ بن عدي -رضي الله عنه- عندما أوقفته كفار قريش ليقتلوه؛ قالوا: هل تود أن يكون محمدٌ مكانك في هذا الموقف؟ قال: لا، والله، فداه نفسي، وفداه أبي وأمي؛ بل أحبُّ أنْ أكونَ مكانه" أو كما قال -رضي الله عنه وأرضاه-، ذٰلكم هو الولاء الذي يجب أن نسلكه.

ثانيًا: من يجب بغضه مطلقًا؛ وهم الكُفَّار الخُلَّص؛ كما قال الله -تبارك وتعالىٰ-: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾.

وقال تبارك وتعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، وقال تبارك وتعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾. فهٰؤلاء من يجب بغضهم مطلقًا.

وصنفٌ ثالث: يُحَبُون من وجِهٍ، ويبغضون من وجهٍ آخر؛ وهم المؤمنون الموحدون الذين صدرت منهم بعض المعاصي غير المكفرة؛ فإنهم يُحبون بقدر ما معهم من إيمان، ويُبغضون بما ارتكبوه من عصيان. وهذا أمرٌ واضح؛ فإنَّ من ارتكب شيئًا من الكبائر أو ما دون الكبائر مع ثباته على التوحيد، وعدم استحلاله لتلك الكبائر؛ فإنه يُحَبُّ بقدر إيمانه، ويُبْغَضُ على قدر ما يرتكب. هذه عقيدة السلف الصالح تجاه هؤلاء، يُشفقُ عليهم، ويُحَبون على قدر إيمانهم، ويُبْغَضون بقدر ما يرتكبون.

ونحن بهٰذا الأمر نكون وسطًا بين الخوارج والمرجئة؛ فإن الخوارج كفَّروا مرتكب الكبيرة، وكفَّروا أهل المعاصي وإن كانوا غير مستحلين، واستحلوا دماءهم وأموالهم وأخرجوهم من الإسلام، وقاتلوا وخرجوا على المسلمين بسبب هٰذه العقيدة، وهٰذا هو ما ادعوه عندما خرجوا على عليٍّ -رضي الله عنه- مع أنه لم يرتكب شيئًا مما تصوره.

ولهم أسلافٌ ما زال المسلمون يعيشون مشاكلهم إلى يومنا هذا، ولا أدلَّ على هذا من تلك الفئة الباغية الخارجة المارقة التي تستحل دماء المسلمين في هذه الأيام غير مكترثين بما قرره علماؤنا وبينوه لشبابنا من وجوب سلوك منهج السلف الصالح في هذه القضايا؛ وإنما يأخذون فتاواهم عن مجهولين، وعن أُناسٍ لا ينبغي ولا يجوز أن تؤخذ عنهم الفتاوىٰ، فاعرف عمن تأخذ دينك يا عبد الله!

وعلى النقيض من أولٰئك: المرجئة والإباحيون، الذين يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ كما لا ينفع مع الكفر طاعة، والذين رتبوا على إرجائهم استحلال ما حرَّم الله -جلَّ وعلا-.

والمؤمنون وسطٌ بين هٰؤلاء وأولٰئك؛ فلا يعطون مرتكب الكبيرة كامل الإيمان ولا يسلبونه الإيمان كله؛ كما قال شيخ الإسلام: "لا يُسلب مطلق الإيمان ولا يُنفىٰ عنه الإيمان بالكلية" أو كما قال -رحمه الله تعالى-.

فأهلُ السنة وسطٌ بين هٰؤلاء وأولٰئك يحبون الموحدين بقدر إيمانهم وتوحيدهم، ويكرهون فيهم ما يقارفون من كبائر ومعاصي.الفقرة السادسة هي:

حكم الولاء: بعبارة أخرىٰ: بمَ يُحكم على من يتولون أو يتبرؤون، وأيضًا لهذا ثلاثة أحوال:

الحالة الأولىٰ: الولاء المحرم الكفريِّ المخرج من دين الله -عزَّ وجل-؛ وهو الذي يسميه أهل العلم: (التَّولي)؛ وهو محبة دين المشركين، ومحبتهم من أجل دينهم، وحب انتصارهم علىٰ الإسلام، وتأييدهم، وتقديم العون لهم كُرهًا للإسلام والمسلمين، وبُغضًا للإسلام والمسلمين؛ فمن فعل ذٰلك فلا شك في كفره، ومروقه من الدين، وهو الذي يسميه أهل العلم: (التَّولِّي)، وقالوا إن ثَمَّةَ فرقًا بين التولي والولاء المطلق.

فالولاء العام -الذي يسميه أهل العلم التولي- هو المحرم؛ كالذين يفرحون بنصرهم على المسلمين، ويحزن لنصر المسلمين عليهم، ويعينهم علىٰ ذٰلك بأيِّ شكلٍ من أشكال العون، ويصحِّحُ مذهبهم ويدافع عن كفرهم؛ كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالىٰ- في مناط التكفير في هذه المسألة: "فمن جنس ما ذمَّ الله به المنافقين وأهل الكتاب: الإيمان ببعض ما هم عليهم؛ كالتحاكم إلى غير كتاب الله -تعالىٰ-، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾.

فمن تولَّىٰ أمواتهم وأحيائهم فهو منهم؛ كالذين يوافقون أعداء الإسلام في شركهم أو في بعض طقوسهم استحلالاً لذٰلك؛ فإن هؤلاء لا شك في كفرهم". انتهى كلام شيخ الإسلام، أو نحو ما قاله -رحمه الله تعالى-.

. أما القسم الثاني: فهو الولاء المحرم الذي لا يصل إلى درجة الكفر؛ كمن يُوالي من أجل مصلحة معينة من مصالح الدنيا، مع بغضه للكفار وكراهيته إيَّاهم، وحبِّه لنصر الإسلام والمسلمين؛ لٰكن فعل ذٰلك -والعياذ بالله- إما شهوةً أو لمصلحةٍ دنيوية أو نحو ذلك -والعياذ بالله-، وهذا لا شكَّ أنَّه محرم؛ ولكن لا يصل إلى درجة الكفر، والبعض يخلط في هذه المسائل.

وقد حصل من بعض الصحابة نوع موالاةٍ وإن كان ذٰلك مغفورًا لهم؛ كقصة حاطبٍ -رضي الله عنه- المعلومة لدى الجميع، وقصة كتابه الذي كتبه لكفار قريش مع ثباته على الإسلام، وبيَّن عذره للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّه يريد أن يتخذ عندهم يدًا؛ لأنه مصلقٌ فيهم وليس منهم، فأراد أن يتخذ يدًا مع إيمانه بنصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ونصر دين الإسلام؛ فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وقال لعمرٍ -رضي الله عنه-: ((وما يدريك أنَّ الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).

ولذٰلك خاطبهم بالإيمان؛ فقال تبارك وتعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾.

قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف -رحمه الله تعالىٰ-: "التولي كفرٌ يخرج من الملة، وهو كالذبِّ عنهم، وأما الموالاة فهي كبيرة من كبائر الذنوب" إلى آخر ما قال رحمه الله –تعالىٰ-.

فالقسم الثاني هو الولاء المقيد أو الموالاة المقيدة التي لا يقصد صاحبها موالاة الكفار لا في عقيدتهم، ولا في دينهم، ولا في طقوسهم؛ وإنما من أجل مصلحة معينة فإنها محرمة يأثم بها؛ ولٰكن لا تنقله عن دين الإسلام.

وقد بوَّب العلماء لذٰلك بمسألة: (الجاسوس)؛ بل بوب لها البخاري -رحمه الله- بمسألة الجاسوس، الذي رأىٰ مالك -رحمه الله- قتله، ورأىٰ بقية الأئمة تعذيره من المسلمين.

القسم الثالث: وهو ما يُظنُّ أنَّه ولاءٌ وليس بولاء؛ مثل: الشفقة والرحمة التي يجدها المسلم في قلبه تجاه أبيه الكافر أو أمه الكافرة أو قريبه الكافر، وهذا أمرٌ طبيعي؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أشفق على أمه وزار قبرها، وقال: ((استأذنت ربي أن استغفر لها فلم يأذن لي، ثم استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي)) فبكى وأبكى من حوله، وقال: ((زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة)).

وكذا تمني النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، وشفقته عليه، ومجيئه إليه، والاجتهاد في دعوته وهدايته كما تقدم.

وكذٰلك ما يجده المرء من حب طبيعي لأهله وأبيه، وكما يجده المرء من المسلم الذي تزوج كتابيةً من ميل قلبي إلى حبها ونحو ذلك، هذا لا يترتب عليه ولاءٌ ولا براء، ولا علاقة له بالولاء والبراء.

ينبغي للمسلمين أن يتنبهوا إلىٰ توضيح هذه المسألة؛ حتىٰ لا يحصلُ خلطٌ بين الولاء المحرم وبين الحب الطبيعي أو بين الميل الطبيعي الذي يجده كلُّ إنسانٍ في نفسه.

وأختمُ بالردِّ علىٰ بعض الشبه التي قد تنطلي علىٰ البعض، وأختار ثلاثة أو أربعة أمور.

الأمر الأول: تعلق البعض -ممن لم يرجعوا إلى علماء الأمة في فهم الكتاب والسنة- بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب))؛ حيث يفسر البعض دخول بعض المعاهدين أو المستأمنين أو الذميِّين لمصلحة من مصالح المسلمين -سواءٌ كان علىٰ المستوى الشعبي أو علىٰ المستوىٰ الرسمي بإذن الإمام-، يفسرون ذٰلك بأنه مخالفٌ لقاعدة الولاء والبراء في الإسلام، وقد يترتب على ذٰلك استحلالهم لدماء أولئك المستأمنين والذميِّين والمعاهدين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في البخاري-: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا فهمٌ عجيب، فعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "المسلمون يسعى بذمتهم أدانهم، ومن خفر ذمة مسلم فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً".

والمقصود بـ: ((لا يجتمع دينان))؛ أي: لا يظهر دين الكفار، وهذا لن يظهر -بإذن الله- في هذه الجزيرة المباركة؛ ثمَّ ما المقصود بالجزيرة؟ هل المقصود مكة والمدينة، أو المقصود مكة والمدينة واليمامة [وما خلفيها] كما قال أهل العلم؟ والمخاطب بذلك هو إمام المسلمين، والمقصود: أن لا يظهر دينٌ ينافس دين الإسلام.

أما لو دخل أحدٌ بموجب الأحكام الشرعية التي نصَّ عليها أهل العلم في مسألة دخول غير المسلمين إلى بلاد الإسلام، وجزيرة العرب بشكل خاص، ومكة والمدينة بشكل خاص، فإنَّ هذا أمرٌ له أحكامٌ مفصلة، فليرجع إليها في مظانها، ولا تدخل في مسألة الولاء والبراء المذموم.

المسألة الثانية: تعلقهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)). فيفهمون هذا بفهمهم الخاص بأنَّ المقصود لأي شخص أن يتصرف كما يحلو له أو كما يشاء ويخرج ويتصرف كما يريد، والذي ينبغي أن نرجع في هذه المسائل إلىٰ أهل العلم، وأنَّ المخاطب بهذا أولاً: هو الإمام وولي الأمر، والأمر الثاني يعود إلى الأمر الأول -الذي بينته قبل قليل- وهو أنَّ المقصود أن لا يكون لهم دينٌ وطقوسٌ وأن لا تكون لهم نشاطات دينية تنافس دين الإسلام، أما لو أقاموا بعض طقوسهم في داخل بيوتهم، فهم وشأنهم بشرط أن لا يؤثر ذلك على المسلمين بأي شكلٍ من الأشكال، وألا يقلدَّهم في ذلك أحدٌ من المسلمين، أو يغتر بهم، وأن لا يُسمح لهم بإعلان ذلك.

أيضًا: من الشبه التي يتعلقون بها: مسألة المعاملات والبيع والشراء والإيجار والاستئجار والتعاقد والمعاملات الدنيوية المعروفة؛ فإنَّ البعض من الناس يخلط في هذه المسألة خلطًا عجيبًا، مع أنَّه ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تُوفِّيَ ودرْعُهُ مرهونةٌ عند يهوديٍّ، وأباح البيع والشراء، والإيجار والاستئجار، وقد استأجر عبد الله بن أُرَيْقِط هاديًا خريتًا لما هاجر إلى المدينة، وقد استأجر عليٌ نفسه -رضي الله عنه- ليهودية فمتح لها ست عشرة دلوًا كلَّ دلوٍ بتمرة، وغير ذٰلك من المعاهدات والمعاقدات. فإذا جاءت هذه النصوص، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولا نلتفت إلىٰ تلك الشبهة.

أيضًا: -لعلي أذكر نقطة أخيرة أختم بها هذه الكلمة- البعض يعترض على بعض المعاهدات والمعاقدات التي يبرمها ولي الأمر والإمام لمصلحة المسلمين، مع أنَّه لو نظر إلىٰ السنة لوجد أنه جرى فيٰ عهد النبي صلى الله عليه وسلم معاهداتٌ ومعاقدات، قد يكون فيها أحيانًا حيفٌ على المسلمين، كما تعلمون من قصة صلح الحديبية، حيفٌ مؤقت، والله -تبارك وتعالىٰ- ناصرٌ دينة، ومعلي كلمته؛ حتىٰ همَّ بعض الصحابة واعترض، وبعضهم ندم، وقال: والله! إذا تذكرت ما وقع لي يوم أبي جندل فإنني أقول: أيها الناس اتهموا رأيكم، فقد هممت بالاعتراض علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أبي جندل.

فالنبي صلى الله عليه وسلم عقد صلح الحديبية، وفيه بنودٌ لا تخفى على طلبة العلم؛ منها: أنهم طلبوا ألا يُكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا بسمك اللهم)) لما طلب سُهيل بن عمرو ألا تكتب البسملة المعروفة، ولما قال: ((اكتب هذا ما عاقد عليه محمد رسول الله))؛ قال: والله �

قائمة الخيارات
0 [0 %]
بقلم: صالح بن سعد السحيمي
الجمعة 10 جمادة الاولى 1431
عدد المشاهدات 3737
عدد التحميلات 60
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق